إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم
قال تعالى: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدًا عليه حقًا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم" (التوبة: 111).
ما أجمل هذه الصورة البديعة والتمثيل الرائع، صورة العقد الذي عقده رب العزة جل جلاله بنفسه، وجعل ثمنه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وسجل كلماته بحروف من نور في الكتب السماوية الثلاثة، وما أشرفه من صك وتوثيق، ووعد ألزم الله به نفسه وجعله حقًّا عليه مبالغة في الفضل منه والكرم وإيناسًا لعباده ولطفًا بهم، ولا أحد أوفى من صاحب هذا الوعد، فوعد الرب الغائب أقوى من بضاعة كل عبيده الحاضرة.
لكن.. ماذا تساوي نفوسنا -وإن طهرت- حتى يشتريها الله منا بكل هذا الثمن؛ لذا قال الحسن البصري وقتادة: "بايعهم والله فأغلى ثمنهم". وهو ما دفع محمد بن الحنفية أن يحثّك على تزكية نفسك وتطيبيها بالعمل الصالح والطاعات والقربات، مبررًا ذلك بقوله: "إن الله عز وجل جعل الجنة ثمنًا لأنفسكم فلا تبيعوها بغيرها". أنت إذن غالٍ جدًّا عند الله، يحبك ويريد أن يكرمك غاية الإكرام؛ لذا اشتراك بجنة عرضها السماوات والأرض جنة لا تقدر بمال، فأنت والله أغلى عنده من الدنيا بأسرها.
الحقيقة الساطعة
وقد مر بك: "موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها"، فكيف بعت هذه النفس الثمينة بشهوة تنقضي في لحظة؟ وبلذة لا تبقى سوى ساعة؟ وهبها بقيت أيامًا وأعوامًا فماذا تساوي بجوار لذة الخلد؟! وبعتها لمن؟! لأعدى أعدائك: شيطانك!! هو ما دفع ابن القيم أن يتعجب في إحدى فوائده قائلاً: "إنما أبعدنا إبليس إذ لم يسجد لك وأنت في صلب أبيك، فوا عجبًا كيف صالحته وتركتنا"!!
إذن فالحقيقة الساطعة أنك لا تملك نفسك، ولا يحق لك التصرف فيها دون إذن المالك، يصرفها حيث يشاء يقول لك هذا حلال فتقبل، وهذا حرام فتعرض.. افعل كذا ولا تفعل كذا.. تكلم بهذا ولا تنطق بهذا.. امشِ إلى هنا ولا تقترب من هنا، بل لو قدمك للذبح عن طريق جهاد أو كلمة حق في مواجهة طاغية فعلى أي شي تعترض؟! وهو إنما يتصرف في ما اشتراه منك وبعته له، وأعطاك في المقابل الجنة، أفترجع في بيعتك؟! أم أنك لم تبِع وزهدت في الجنة من الأساس؟..
وإذا بعت.. أيحسن لمن باع شيئًا أن يغضب على المشتري إذا تصرف فيه أو يتغير قلبه تجاهه إذا أنفقه؟ وأي شيء لنا فينا حتى نتكلم!! إنها البيعة المعلقة في عنق كل مسلم عرف أم لم يعرف، ولا بد له من الوفاء، وهو قول شمر بن عطية: "ما مسلم إلا ولله عز وجل في عنقه بيعه، وفَّى بها أو مات عليها، ثم تلا هذه الآية "إن الله اشترى أنفسهم ..".
إن الله تعالى وحده هو المستحق أن يطاع ويحب ويعبد لذاته حتى لو لم يثب عباده شيئًا لا أن يمنحهم الجنة؛ لأنه هو الذي خلق وهدى ورزق، كما أنشد بعضهم:
هب البعث لم تأتنا رسـله وجاحمة النار لم تضرم
أليس من الواجب المستحق حـياء العباد من المنعم
أبخس ثمن!!
لكنه تعالى كافأ عباده وشوقهم، وأرسل الآيات تلو الآيات تهيب بالسامعين التشمير للجنة والرحيل إليها، وبعد كل هذا تزهدون!! سلّم واستلم إخوتاه.. البائع لا يستحق الثمن إذا امتنع عن تسليم المبيع، فكذلك لا يستحق العبد الجنة إلا بعد تسليم النفس والمال إلى المشتري، فمن قعد أو فرط فغير مستحق للجنة، فهل سلمت ما عليك لتستلم ما اشتهيت؟! وهل من باع نفسه وعلى استعداد أن يقدمها للذبح إرضاء لربه لا يقوى على ما هو أهون من الذبح بكثير؟ من غض بصر أو الاستيقاظ فجرًا لصلاة أو الصبر على لقمة حرام تعرض عليه رشوة أو شبهة؟ وإذا لم يقوَ على هذا الأسهل فهل مثله باع فعلاً؟ أم أنه يطمع في نيل أغلى سلعة بأبخس ثمن!!
ومثل هذه المواجهة المتكررة للنفس الأمارة بالسوء تورث العبد ولا بد واحدًا من أجمل الأخلاق وهو خلق "الحياء" الذي يعصم من كثير من الرذائل، ويدفع لإحراز أسمى الفضائل.
فكلما لمست من نفسك فتورًا أو انشغالاً بالعاجلة أو إيثارًا للفانية اسأل نفسك: هل بعت؟! هل اشتريت الجنة حقًّا وبعت نفسي ومالي في سبيلها؟! وما الدليل على ذلك؟! وأي عقل في التأخر عن صفقة كهذه؟! أو الانشغال عنها بغيرها؟!.
ربح البيع
يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال: "إنه نص رهيب! إنه يكشف عن حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين بالله، وعن حقيقة البيعة التي أعطوها -بإسلامهم- طوال الحياة، فمن بايع هذه البيعة ووفّى بها فهو المؤمن الحق الذي ينطبق عليه وصف (المؤمن) وتتمثل فيه حقيقة الإيمان، وإلا فهي دعوى تحتاج إلى التصديق والتحقيق!! حقيقة هذه البيعة -أو هذه المبايعة كما سماها الله كرمًا منه وفضلاً وسماحة- أن الله سبحانه قد استخلص لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم، فلم يَعُد لهم منها شيء.. لم يَعُد لهم أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيله.. لم يَعُد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا.. كلا.. إنها صفقة مشتراة، لشاريها أن يتصرف بها كما يشاء، وفق ما يفرض ووفق ما يحدد، وليس للبائع فيها من شيء سوى أن يمضي في الطريق المرسوم، لا يتلفت ولا يتخير، ولا يناقش ولا يجادل ولا يقول إلا الطاعة إلا الطاعة والعمل والاستسلام.. والثمن: هو الجنة".
ولكي تستشعر معنى هذه البيعة حقًّا اقرأ فيمن نزلت آية البيعة "إن الله اشترى..". نزلت في بيعة العقبة الكبرى في العالم الثالث عشر من البعثة، وهو العام الذي أتى فيه الأنصار -يربو عددهم على السبعين- يبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم بيعة التضحية والفداء، فقام منهم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه قائلاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. قال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمعنون منه أنفسكم وأموالكم. قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: الجنة. قال: ربح البيع.. لا نقيل ولا نستقيل.
إياك والفلاح!!
هؤلاء قوم أيقنوا بالجنة، ولما يمضِ على إسلامهم سوى بضعة أشهر، مع أنها غيب لم يروه ويبذلون مع ذلك في سبيلها أغلى ما يملكون: النفس والمال، ونحن نسمع عن الجنة مذ وعينا طوال عمرنا وما دفعنا نفس الثمن، فهل أيقنت نفوسنا هذا اليقين؟! وهل نحن على استعداد لنفس البذل؟! وآخر باع نفسه للعدو!! هل أنت: توقظك العبر فلا تستيقظ، وتعظك الآيات فلا تتعظ، لم يكفك ما نزل بأمتك الثكلى عن جهالتك، ولا ردتك هزائمها المتوالية عن ضلالتك تصغي إلى الهدي كأنك أصم، قد غطّى الهوى سمعك وعينك، وحال بينك وبين ربك، وملك الشيطان مفاتيح قلبك، ثم ضيعها حين رمى بها في متاهات الضلالة.
كم طرقت بابك العظات لتنشلك من غفلتك، فناداك الشيطان: إياك والفلاح!! فسمعت له وأطعت، استسهلت القول واستصعبت العمل، أملت النجاة بغير تعب، وطلبت الجنة دون دفع ثمن، إن افتقرت حزنت، وإن استغنيت فتنت، إن سألت ربك أكثرت، وإذا سألك ربك قتّرت، تنشط للطاعة يومًا أو بعض يوم، ثم سرعان ما تزهد، وتبغي الازدياد من الجديد قبل أن تؤدي الشكر على القديم. حاشاك أن تكون كذلك.. حاشاك.. ثم إياك إياك من موافقتك هواك