بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد : إن هدف الإسلام الأسمى أن يصل المسلمون إلى تمثل هذا الدين العظيم فهماً ومعاملةً...
وكي تتحقق الثانية فيصبح الإسلامُ عملًا في حياة الناس كان لا بد من إخراج سلسلةٍ ترشيديةٍ في المفاهيم الإسلامية التي يحتاج إليها المسلم في حياته.
وعليه رأى المجلس الإسلامي للإفتاء في الحركة الإسلامية أن تخرجَ هذه المفاهيم الإسلامية مصوغةً صياغةً شرعية تربوية توجه أهل هذه الديار إلى تعظيم محارم الله واتقائها.
وان من المستحدثات السيئة في المجتمع الحلف الكاذب أو اليمين الكاذب .
أ- اليمين الكاذب أو اليمين الغموس :
- عرفه ابن الهمام ( رحمه الله ) : " بقوله هو الحلف على أمرٍ ماض يتعمد فيه الكذب " .
- قال النووي (رحمه الله) : " فان حلف على ماضٍ كاذب وهو عالم فهو اليمين الغموس " .
وإنما يسمى يميناً شرعياً إذا كان بالله تعالى أو بأي صفة من صفاته.
- ونقل الدكتور وهبه الزحيلي إن اليمين الغموس قد يكون بصيغة الماضي كما يكون بصيغة المضارع .
كأن يقول : " والله أكلت اللحم " , أو يقول : " والله انه أحمد " , مع انه لم يأكل لحما في الأولى وعلم أنه خالد في الثانية .
- وسمي اليمين الكاذب غموساً لأنه يغمس صاحبه في النار، وقيل لأنه غمس اسم الله بالكذب.
ب- اليمين الغموس من الكبائر:
اليمين الغموس حرام باتفاق علماء المسلمين والحالف كاذبا يأثم عندهم جميعا بل عد جمهور أهل العلم اليمين الغموس من الكبائر ، كابن حجر الهيثمي فقد عده من الكبائر في ( الزواجر عن اقتراف الكبائر) ، والإمام الذهبي عد اليمين الغموس الكبيرة الخامسة والعشرين ،وهو ما قاله النووي في ( الروضة ) وابن الهمام في ، ( فتح القدير ) وكذا محمد بن عبد الوهاب في كتاب ( الكبائر ) ، وأما الإمام الشوكاني ( رحمه الله ) فقد غلط في تفسيره المسمى ( فتح القدير ) فقال : " بل ما ورد في اليمين الغموس إلا الوعيد والترهيب وإنها من الكبائر بل من اكبر الكبائر ، وفيها نزل { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم } . [ آل عمران 77 ] .
- ويقول الدكتور احمد الكردي عن يمين الغموس وهي من اكبر الكبائر عند الله تعالى وكذا أفتى الدكتور عمر هاشم رئيس جامعة الأزهر الشريف.وعدها الشيخ إبراهيم العاملي الكبيرة الثانية والثلاثين في كتابه ( نزهة البصائر في معرفة الكبائر ) .
ت- أدلة اعتبار اليمين الغموس من الكبائر :
- { قال تعالى إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب عظيم } . [ آل عمران 77 ] .
- قال تعالى : { وكانوا يصرون على الحنث العظيم } . [ الواقعة : 46 ] .
كأن الآية تقول فاستحقوا العذاب لأنهم أصروا على الحنث العظيم.
- نقل ابن كثير في تفسيره للآية عن الشعبي ( رحمه الله ) من التابعين قال : هو اليمين الغموس .
ونسبة آخرون في تفاسيرهم لغير الشعبي أيضا.
- قال صلى الله عليه وسلم : ( من حلف على يمين وهو فيها فاجر ليقتطع بها مال مسلم لقي الله تعالى وهو عليه غضبان ) . [ متفق عليه ] .
- ولاشك إن اليمين الكاذبة قد تختلف ، فقد تكون لاقتطاع مال رجل مسلم بغير حق فهي من الكبائر ، وقد تكون لاقتطاع حق غير مالي لمسلم فيسري عليهما ذات الحكم ،كاقتطاع حقه في الانتفاع بعينةٍ معينة ، أو حقه في مباح ويدخل في ذلك انتزاع حق مسلم في الحج لبيت الله الحرام حيث أن الكثيرين يعمدون إلى حلف الأيمان الكاذبة انه ما حج من قبل وقد حج ، فيقطع حق أخيه المسلم في الحج . وأعظم منه نكارةً وأشنع منه من يحلف الأيمان المغلظة زوراً وبهتاناً إن فلانة من الناس من محارمِهِ وهي ليست كذلك ، وهو إنما يفعل ما يفعل بسذاجةٍ تامة ظناً منه انه يحسن إليها ، وإنما أساء حيث عصت أبا القاسم صلى الله عليه وسم في حجها هذا ، فأما هي فأثمت بسفرها فوق مسافة القصر بلا محرم , وأما هو فأثم بموافقتها وبيمينه الكاذبة .
- قال صلى الله عليه وسلم : ( ثلاثةٌٌ لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم ) فقرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ، فقال أبو ذر : خابوا وخسروا يا رسول الله من هم ؟ قال: ( المسبل – أي المطيل – رداءه كبراً وخيلاء والمنان المنفق سلعته بالحلف الكاذب ) . [رواه مسلم وأبو داوود وغيرهما ] .
- فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد توعد من انفق سلعته باليمين الكاذب،فما بال الناس هذه الأيام يكثرون الحلف على بضائعهم ليروجوها وربما أخفوا عيبا يعلمونه في السلعة فيكونوا قد غشوا هذا المسلم وسلكوا لسبيلهم الحلف الكاذب ، وهذا منتشر في أسواقنا ، والمحلات التجارية دون أن يستحضر التاجر عظمة الله وهيبة الوقوف بين يديه .
- وقد أُثر أن النصارى لما أرادوا إخراج المسلمين من الأندلس أرسل كبير قساوستهم رجلا ليشتري له سلعةً من سوق المسلمين ، فلما أن أوشك على الدخول لأحد المحلات التجارية قال له التاجر : أما أنا فلقد بعتُ اليوم ، وأما صاحبي فلم يبع شيئا فليتَكَ أتيته ، فاشتريت من بضاعته ، فذهب النصراني واشترى من التاجر الأخر، ثم عاد إلى الراهب فقص عليه الخبر، فاستبعد الراهب هزيمة المسلمين ، وبعد سنوات أرسل القساوسة رجلاً أخر فتنازع التجار المسلمون فيما بينهم كل يريد أن يشتري هذا الرجل من سلعته ، وكل يحلف عليها ، فلما عاد إلى القساوسة ، قالوا : الآن جاء دور هزيمة المسلمين .
- وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم في عد اليمين الغموس من الكبائر ، فقد روى البخاري وغيره عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ما الكبائر ؟ فذكر في الحديث الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس...
- وقد قال سعيد بن المسيب – رضي الله عنه – وهو من أَعلام التابعين قال : هي من الكبائر وهي اعظم من أن تكفر .
- اليمين الغموس تغمس صاحبها في النار ولا كفارةَ لها :
قدمنا أن الحلف الكاذب حرام ، بل هو من الكبائر ، فقد يسأل سائل ما كفارة اليمين الغموس ، فنقول : إن جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والحنابلة ذهبوا إلى أن لا كفارة في اليمين الغموس يقول لأن الذي أتى به الحالف اعظم من أن تكون فيه كفارة فلا ترفع الكفارة إثمها ولا تشرع فيها،وقد سميت بالغموس لأنها تغمس صاحبها في النار أوفي الإثم , ولما كانت اليمين الغموس تعدي على حقوق المسلمين ، فلا تنفع فيها الكفارة ولا تجزيء عن الذنب الذي اقترفه لأن للمجتمع حق والذي يكذب مستخدماً الأيمان يكون سبباً لضياع كثير من حقوق الناس لذلك وجب زجره .
- الحلف كذباً لأجل الحج:
قد رأيت وعلمت أن اليمين الغموس من الكبائر عند العلماء،ويلزم صاحبها توبة صادقة كي يغفر له ولا يكفي الكفارة في الراجح من أقوال أهل العلم .
وعليه فلا يتوسل بما هو غير مشروع لِما كان مشروعاً ، فالحج وإن كان مشروعاً في أصله إلا أنه لا يتوصل إليه بيمين حرام كمن يحلف أنه لم يحج من قبل ، وقد حج .
- قد جرى كثيرون من الناس على هذا النهج حيث يريدون مرتين أو ثلاثة فتحلفهم لجان الحج والعمرة انهم ما حجوا من قبل فيحلفون الأيمان الكاذبة ظناً منهم أ جائز لأنه يتوصل به إلى أمرٍ مشروع ، وهذا كلام ٌ باطل ، بل هذا الحلف حرام ، بل هو كبيرةٌ وعلى صاحبه أن يتوب إلى الله ولا تجزؤه الكفارة،فقد وردت الأحاديث التي ذكرناها ، بذم اليمين الكاذبة ، ثم إن الحالف يكون سببا لحرمان أخر من حجةِ الفريضة التي هي حجة الإسلام وعليه فإن هذا بدأ حَجَهُ بمخالفةٍ شرعيةٍ وصلت حد الكبيرة فمن فعل ذلك فعليه أن يستغفر الله ويتوب إليه ويعود عما فعل ولا يكمل حجه إن كان قائماً ، وإن كان مضى فإنه يستغفر الله ويتوب إليه .
والله تعالى أعلم
المجلس الإسلامي للإفتاء